الغرفة 203
يمنات
ضياف البراق
الليلة، وبينما الحرب – أسأل الله أن يحفظها لي ولكم جميعًا – تعصفُ بكل شيء، ها هو قلبي يتنفّسُ الأملَ الميِّت، ومستقبلي يبدو جميلًا حتى اللا شيء. ها أنا أراقبُ العالَمَ من نافذةٍ مُخيفةٍ، ضيّقةٍ كدماغي الأعمى، أراقبه بخوف وانكسار، وأتلمَّسُ ما تبقّى منِّي بأصابعٍ باردةٍ قد لا تصلح لشيءٍ بعد اليوم. العالَمُ كذوب دائمًا، قَلِقٌ كسيجارةٍ تحترِقُ بلا رغبةٍ، مريض جدًّا في صميمه.. إنه مسكونٌ بالخوف، كأنّه أنا أو يشبهني حتى التطابق. ها أنا خائفٌ ومرهق، كأنَّ العالم كله ضدي.
دفعتُ ما يقارب 6 دولارات (كم أنا حزين عليها!) مقابل إقامتي، الليلة، في هذه الغرفة الخالية إلَّا من القلق، والخوف. إنها، بلا شك، أسوأ غرفة في هذه المنطقة الشاحبة، المزدحمة بالمباني، والناس، والكآبة، والأزمات، والتي يُسمِّيها الأغبياء والبؤساء بالمدينة أو العاصمة. إنها أسوأ ليلة في عمري كله. الغرفة مكونة من نافذتين لا جدوى منهما، ستائرهما الرثّة ملأى باليأس والغُبار، وتلفزيون متوسط الحجم لم يعد صالحًا للعمل، ومصباح كهربائي متسِخ كأنه يُضيء بالتقطير، وسرير مُقرِف لا يُطاق أبدًا كالنعش المخيف الذي يحمل الموتى إلى خالقهم.
لأول مرة في حياتي سأنام على سرير، أنا الذي يعيش في القاع دائمًا، حتى أصبحتُ أخاف من المرتفعات، والصعود إلى الأحلام الشاهقة. هذا السرير يذّكرني بالموت، إنه يخيفني لدرجة عصيّة على المقاومة.
أصابني الخوفُ مُذْ فتحتُ بصري على الدنيا، فأصابني معه الضعف النفسي، والشلل الذهني، وهذا هو سِرُّ سعادتي هذه. داخلي مسكونٌ بالخوف على الدوام. خُطاي، أحلامي، كلماتي، أظفاري، علائقي مع الأشياء، تفاصيلي اليوميّة جميعًا، كل هذه مسكونة بالخوف أيضًا. في المدرسة الابتدائية، كان أستاذ القرآن أو التربية الإسلامية، يخيفني بقوة وإخلاص، كان شعر رأسي يستقيم، وعضلات قلبي ترتعد كما لو كانت هاربة من وحشٍ مُفترس. يا له من أستاذ جميل! كان ينقل عذابَ القبر إلى داخلي، ما بالكم عندما كان يحدثنا عن عقوبة تارك الصلاة في الآخرة. أمّا في البيت، فلم أكن أجرؤ على ترك الصلاة ولو لمرة واحدة، لذا كنتُ أؤديها في أوقاتها، وبدون أي رغبة أو وضوء جيد. أذهب إلى مسجد القرية مرغمًا، وهناك يجرِّعني الشيخُ “الملتحي”، أو الإمام الصارِم، مراراتٍ وخرافاتٍ ناريّة كثيرة، فأعود للبيت خائفًا، وقلبي المفجوع يلعنُ كلَّ شيء. وفي أغلب الأيام كنتُ لا أنام جراء ذاكَ الخوف، الفريد من نوعه، والذي كان يهاجمني في الظلمة أو الحلم. علموني الخوف في المدرسة، في البيت، في الشارع، وأينما ذهبتُ. إنه الخوف، يقصف العُمرَ بسرعة وامتياز، ويحيل النفوسَ إلى مقابر أو يباب.
أقذر ما في الحياة، الخوف. وأكثر ما يخيفني، ما يهدر كرامة الإنسان أو يسلبها. إنني أخاف من الجوع، الجوع الذي يقتل فينا معنى الحياة، ويحد من طموحات وحريات المرء. الجوع ضد الإبداع، وتلك قناعتي المطلقة.
أيضًا، تخيفني تلك الروائح المنبعثة من المستشفيات، وتلك الشعرة التي تباغتني بين الطعام، وتلك الأوطان التي لا قيمة فيها للإنسان. ها أنا أخافُ أن يباغتني ذلك اليوم اللعين الذي تتوقف عنده قدرتي على الكتابة، أو أفقد فيه الثقة بالناس.
المصدر: جريدة “بين نهرين” الثقافية، العراقية
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.